تخزين الطاقة

بطاريات التدفق Redox : آفاقٌ جديدة لتخزين الطاقة على نطاق واسع

مقدمة: عصر الطاقة المتجددة يحتاج حلولًا تخزينية ثورية

مع التوسع الكبير في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، برزت الحاجة إلى حلول متطورة لتخزين الكهرباء بكفاءة. ذلك أن هذه المصادر تعتمد على الطبيعة وتتميز بالتذبذب، مما يعني أنها لا توفر الطاقة بشكل مستمر على مدار الساعة. هنا يأتي دور تقنيات تخزين الطاقة، التي تسمح بالحفاظ على الفائض من الطاقة المتجددة واستخدامه لاحقًا عند الحاجة. وفي هذا السياق، تبرز بطاريات التدفق، أو ما يُعرف بـ”Redox Flow Batteries (RFBs)”, كأحد الحلول المبتكرة التي تحمل وعودًا كبيرة للمستقبل. هذه البطاريات لا تعتمد على تخزين الطاقة في أقطاب ثابتة كما في بطاريات الليثيوم، بل تقوم بتخزين الطاقة في سوائل كيميائية يتم ضخها بين خزانين، مما يمنحها مرونة عالية وسعة تخزين قابلة للتوسع بسهولة.

Schematic of a single cell RFB, depicting electrolyte flowing from storage tanks. Source: https://doi.org/10.3390/batteries9080409.

المكونات الأساسية… تصميم مرن لأداء عالي

1. الإلكتروليتات (Electrolytes)

الإلكتروليت هو السائل الذي يحمل الأيونات اللازمة لحدوث التفاعل الكيميائي داخل البطارية. وتُعد بطاريات الفاناديوم من أشهر أنواع بطاريات التدفق، حيث تستخدم هذا العنصر في كلا جانبي التفاعل، مما يساعد في تقليل التداخل بين العناصر المختلفة داخل البطارية ويطيل من عمرها. غير أن تكلفة الفاناديوم المرتفعة تدفع الباحثين للبحث عن بدائل أخرى مثل المركبات العضوية، التي تتميز بانخفاض التكلفة ووفرة المصادر، إلى جانب أنها تتيح تصميم بطاريات أكثر استدامة بيئيًا. كما يتم أيضًا استكشاف أنظمة هجينة تجمع بين الفلزات المختلفة لتحقيق توازن بين الكفاءة والتكلفة. يعتبر الإلكتروليت هو القلب الديناميكي لبطارية التدفق، وتؤثر خصائصه تأثيرًا مباشرًا على الطاقة المخزنة وكفاءة البطارية. يتم تخزين الإلكتروليت في خزانين منفصلين، أحدهما للأنود والآخر للكاتود، ويتم ضخهما إلى الخلية للتفاعل. كلما زادت قابلية ذوبان المواد النشطة في هذا السائل، ارتفعت كثافة الطاقة المخزنة. يتعين أن يتمتع الإلكتروليت بثبات كيميائي ضمن نافذة جهد آمنة، لتفادي تحلل المكونات أو حدوث التحليل الكهربائي غير المرغوب فيه، خصوصًا في الأنظمة المائية التي يتوجب أن لا يتجاوز جهدها النظري 1.2 فولت لتفادي تحليل الماء. في المقابل، يمكن استخدام مذيبات عضوية مثل الأسيتونتريل وكربونات البروبيلين لتوسيع النافذة الكهروكيميائية والوصول إلى جهد خلية أعلى، إلا أن هذه المذيبات قد تواجه تحديات في قابلية ذوبان المواد النشطة. تشمل العوامل الأساسية التي يجب أخذها في الاعتبار عند تصميم الإلكتروليت: قابلية الذوبان، جهد الخلية، سرعة التفاعل، درجة الحرارة المثلى، واستقرار الكاتيونات والأنيونات الداعمة. هذه العوامل مجتمعة تحدد أداء البطارية وكفاءتها في مختلف التطبيقات.

2. الأغشية (Membranes)

يُعد الغشاء مكوّنًا جوهريًا في تصميم بطاريات التدفق، إذ يؤدي دورًا مزدوجًا: فهو يفصل بين إلكتروليت الأنود والكاتود لتجنب التفاعل المباشر أو التلوث المتبادل، وفي الوقت نفسه يسمح بمرور الأيونات اللازمة للمحافظة على توازن الشحنة داخل البطارية. لكن أداء الغشاء ليس مضمونًا دائمًا، إذ يمكن أن يتسبب عبور المواد النشطة (crossover) خلاله في فقدان السعة وتراجع الكفاءة بسبب التفريغ الذاتي. كما أن مقاومة الغشاء لحركة الأيونات، إلى جانب احتمالية امتصاصه للإلكتروليت وتمزقه، قد تؤدي إلى مشاكل في الجهد وعمر البطارية. خصائص الغشاء المثالي تشمل:

  • موصلية أيونية عالية
  • مقاومة إلكترونية قوية
  • انتقائية في مرور الأيونات
  • ثبات كيميائي أمام ظروف الأكسدة والاختزال
  • عمر ميكانيكي طويل وتحمل للتمدد والتمزق
  • تكلفة معقولة

الغشاء الأكثر استخدامًا تجاريًا هو Nafion، وهو غشاء تبادل كاتيوني يتمتع بثبات وموصلية عالية، لكنه عرضة لمرور بعض الأيونات غير المرغوبة (مثل أيونات الفاناديوم)، مما يقلل كفاءته.

.Improving RFB membranes, expected to lead to enhanced battery performance. Source: https://doi.org/10.3390/batteries9080409.

تصنيفات الأغشية في  RFBs

  • أغشية مسامية (Porous) تسمح بمرور الجزيئات عبر المسام الدقيقة – فعالة في بعض التطبيقات لكن أقل دقة في التحكم بالأيونات.
  • أغشية كثيفة (Dense Ion Exchange Membranes – IEMs) تعتمد على هجرة الأيونات عبر مجموعات وظيفية مدمجة في البنية، وتشمل:
    • CEMs  (أغشية تبادل كاتيوني): تمرر الكاتيونات وتمنع الأنيونات، مثل  Nafion
    • AEMs  (أغشية تبادل أنيوني): تمرر الأنيونات وتمنع الكاتيونات، مثل  Fumasep

CEMs  تتميز بموصلية عالية لكن بنفاذية ضعيفة، بينما AEMs أقل موصلية لكنها أفضل في عزل الأنواع النشطة.

جهود التطوير:  نظرًا لأن تكلفة الغشاء تمثل حوالي 40% من تكلفة وحدة البطارية، تركز الأبحاث حاليًا على:

  • تعديل Nafion لجعله أكثر كفاءة كمصد لأنواع المعادن.
  • تطوير أغشية بديلة منخفضة التكلفة مصنوعة من بوليمرات هيدروكربونية أو مشبعة بالفلور.
  • استخدام تقنيات خلايا الوقود كمصدر إلهام لتحسين التصميمات.

الهدف هو إيجاد أغشية تجمع بين الأداء العالي والتكلفة المعقولة، مع عمر تشغيلي أطول، واستقرار كيميائي وميكانيكي يدعم تشغيل البطارية على مدى طويل بكفاءة وأمان.

3. الأقطاب (Electrodes)

تلعب الأقطاب الكهربائية دورًا محوريًا في تشغيل بطاريات التدفق، فهي المكان الذي تتم فيه التفاعلات الكهروكيميائية الأساسية: الأكسدة والاختزال. لكي تؤدي هذه الأقطاب وظيفتها بكفاءة، لا بد أن تمتلك خصائص محددة مثل مساحة سطح كبيرة، مسامية عالية، ومقاومة منخفضة للتآكل والتيار الكهربائي.

Assembling bipolar plates with their corresponding flow channels and .membrane-electrode redox flow batteries. Source: https://doi.org/10.3390/batteries9080409

في العادة، تُستخدم مواد كربونية مثل لباد الجرافيت (Graphite Felt) في تصميم الأقطاب بفضل قدرتها على توفير مساحة سطحية واسعة واستقرارها في البيئات التآكلية. وتُعزز هذه المواد عبر مجموعة من المعالجات مثل الأكسدة الكهروكيميائية، المعالجة الحرارية، أو التطعيم بعناصر كيميائية لتحسين نشاطها التحفيزي وزيادة كفاءة نقل الإلكترونات داخل الخلية. كما أظهرت التجارب أن إضافة محفزات مثل أكاسيد المعادن الرخيصة أو الجسيمات النانوية إلى سطح الأقطاب يُساهم في خفض خسائر التنشيط وتحسين كفاءة الطاقة بشكل عام.

من الابتكارات الحديثة: تطوير تصميمات دقيقة لمسارات تدفق الإلكتروليت عبر الأقطاب وتقليل مقاومة الضخ، مما أدى إلى تحسين توزيع التفاعل وزيادة كفاءة النظام بنسبة تصل إلى 2.7% في بعض الحالات.

وقد أظهرت تقنيات مثل دمج أنابيب الكربون النانوية، وألياف الكربون، وأكسيد الجرافين نتائج واعدة بفضل موصليتها العالية ومساحتها السطحية الكبيرة واستقرارها الكيميائي. وتُظهر هذه الابتكارات إمكانيات كبيرة لتحسين أداء بطاريات التدفق وخفض تكاليف التشغيل.

4. أنظمة بطاريات التدفق: التنوع والتطور المستمر

تُعد أنظمة بطاريات التدفق الأكسدة والاختزال من أبرز تقنيات تخزين الطاقة القابلة للتوسع، حيث تجمع بين كثافة الطاقة المتوسطة والعمر التشغيلي الطويل. من أبرز الأمثلة التجارية بطاريات فاناديوم-فاناديوم (VRFB)  وبطاريات الزنك-بروم (Zn-Br) ؛ رغم أن أنظمة VRFB تمتاز بالاستقرار والمرونة، إلا أن ارتفاع تكلفة الفاناديوم يحد من انتشارها. بالمقابل، تُعد بطاريات الزنك-بروم أكثر تكلفة من حيث التشغيل، وتعاني من كفاءة طاقة أقل نتيجة لتداخل المواد النشطة. ولهذا، يتجه البحث العلمي نحو تطوير جيل جديد من بطاريات التدفق يستخدم إلكتروليتات عضوية منخفضة التكلفة، مثل الكينونات، بدلًا من الأيونات المعدنية. كما تُبذل الجهود لتحسين تصميم الخلية، وتطوير أغشية عالية الانتقائية ومنخفضة المقاومة، إلى جانب هندسة أقطاب كهربائية هجينة تتسم بالكفاءة العالية. تشمل الابتكارات الحديثة أيضًا بطاريات تدفق هجينة تجمع بين إلكتروليتات خالية من المعادن وأقطاب كربونية، مما يُعزز الكفاءة ويُقلل التكلفة.

Vanadium Flow Batteries Structure. Image: https://berconsulting.com.au

5. تقنيات RFB التجارية: الإنجازات والتحديات

تُهيمن على السوق حاليًا تقنيتان رئيسيتان: بطاريات التدفق الفاناديوم (VRFB) وبطاريات الزنك-بروم (Zn/Br-RFB) ، تتميز VRFB بعمر افتراضي طويل واستقرار كهروكيميائي عالٍ، وتعمل بجهد يتراوح بين 1.4 و1.6 فولت. أما Zn/Br-RFB فتصل جهودها إلى 2.0 فولت، وتوفر كثافة طاقة مرتفعة، لكنها تتطلب إدارة دقيقة لتفادي مشكلات مثل سُمية البروم وتكوّن التشعبات.

رغم مزاياها في كفاءة الطاقة والتشغيل الآمن وقابلية التوسع، لا تزال هذه التقنيات تواجه تحديات تتعلق بتكلفة المواد النشطة، كفاءة الطاقة المنخفضة نسبيًا، واعتبارات السلامة. تشمل التطورات الحديثة حلولًا مثل أنظمة إعادة التوازن الكيميائي، والتصاميم المحسنة للأقطاب والأغشية، لتقليل فقدان السعة وتحسين الموثوقية.

تُظهر تقنيات RFB التجارية إمكانات كبيرة في دعم شبكات الطاقة والمرافق، لكن توسيع نطاق استخدامها يتطلب معالجة القيود التقنية والاقتصادية عبر البحث والتطوير المستمر.

6. البطاريات الشمسية والانتشار واسع النطاق

تُعد بطاريات التدفق الشمسية المؤكسدة والاختزال (SRFB) تطورًا مبتكرًا منخفض التكلفة في مجال تخزين الطاقة. تعتمد على بنيتين رئيسيتين: أقطاب كهربائية مساعدة ضوئيًا (PEC) تُطابق مستويات طاقة أشباه الموصلات مع تفاعلات الأكسدة والاختزال، أو تكامل مباشر مع وحدات كهروضوئية (PV) تُكدّس مع الخلية الكهروكيميائية. ما تزال هذه التقنية في مراحل البحث والتطوير، مع تحديات تتعلق بالاستقرار والجهد الضوئي المنخفض.

أما بطاريات التدفق واسعة النطاق، فقد أثبتت فعاليتها في تخزين الطاقة المتجددة وتوفير حلول للمجتمعات المعزولة وشبكات UPS الصناعية. وبينما تُعيق كثافة الطاقة المنخفضة اعتمادها في المركبات الكهربائية، فإن مزاياها في طول التفريغ والأمان والتكلفة تجعلها مثالية لتطبيقات الشبكة.

تُعد VRFB من أكثر البطاريات كفاءة، بينما تُميز بطاريات الزنك-بروم بكثافتها العالية وتكلفتها المنخفضة. ومع مشاريع ضخمة مثل محطة داليان في الصين (800 ميجاوات/ساعة) ومشروع بانجيا في أستراليا (200 ميجاوات/ساعة)، يزداد الزخم نحو اعتماد أوسع لهذه التقنية. من المتوقع أن ترتفع إيرادات بطاريات VRFB عالميًا من 856 مليون دولار في 2022 إلى 7.76 مليار دولار في 2031، مما يعكس النمو المتسارع في هذا القطاع الحيوي.

7. التحديات والآفاق المستقبلية

رغم التقدم الكبير في تقنيات بطاريات التدفق  (RFBs)، لا تزال هناك تحديات تعيق انتشارها الواسع، أهمها انخفاض كثافة الطاقة، مما يجعلها غير مناسبة للتطبيقات المتنقلة. كما تمثل تكلفة المواد، خاصة الفاناديوم، وتكاليف تصنيع المكدس، عوائق اقتصادية رئيسية.

من الناحية التقنية، تواجه RFBs مشاكل تتعلق بتدرجات تدفق الإلكتروليت، وفقدان الكفاءة بسبب تيارات التحويل، والحاجة إلى تحكم دقيق في درجة الحرارة لتجنب الترسيب. كما أن بعض مكوناتها تترك آثارًا بيئية، خصوصًا إلكتروليتات السيريوم والفاناديوم.

ومع ذلك، تشير المقارنات البيئية إلى أن بطاريات RFB تترك بصمة كربونية أقل من بطاريات الليثيوم، رغم أن بعض أنواعها مثل ZCBs تُسبب سمية بيئية أعلى. في المقابل، تُظهر بطاريات VRFB أداءً بيئيًا أفضل وتُعد أكثر أمانًا واستدامة.

يتطلب تحسين انتشار هذه التقنية خفض تكلفة المواد، وزيادة الكثافة الطاقية، وتحسين كفاءة الدورات الطويلة، وهو ما تسعى إليه الأبحاث من خلال تطوير أغشية موصلة أيونيًا أكثر فعالية، وإلكتروليتات عضوية مستدامة، وتصميمات أقطاب متقدمة.

تُعد بطاريات RFB خيارًا واعدًا لتخزين الطاقة الثابتة، ومع تزايد الاعتماد على الطاقة المتجددة، فإن الاستثمارات المستمرة في البحث والتطوير تمثل مفتاح تحقيق إمكاناتها الكاملة على المدى البعيد.

آفاق البحث والتطبيق في العالم العربي

تمتلك الدول العربية إمكانات هائلة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إلا أن تحديات التخزين تشكل أحد المعوقات الرئيسية أمام تعظيم الاستفادة منها. وتوفر بطاريات التدفق فرصة ثمينة لدعم مشاريع الطاقة المتجددة، خاصة في المناطق المعزولة أو التي تعاني من ضعف في البنية التحتية للشبكات الكهربائية. كما أن الاستثمار في البحث العلمي لتطوير إلكتروليتات محلية أو تصنيع أغشية منخفضة التكلفة يمكن أن يعزز من قدرة المنطقة على إنتاج حلول تناسب احتياجاتها المناخية والاقتصادية.

خاتمة: تخزين الطاقة الذكي يبدأ من التدفق

تُمثل بطاريات التدفق تقنية مرنة وآمنة وواعدة لحل معضلة تخزين الطاقة على المدى الطويل. ورغم وجود بعض التحديات التقنية والاقتصادية، فإن التقدم المتسارع في مجال المواد والتصميم والابتكار يوفر فرصًا كبيرة لتوسيع استخدام هذه التقنية في المستقبل القريب. ومع توفر الإرادة السياسية والدعم البحثي، يمكن للمنطقة العربية أن تستفيد من هذه التكنولوجيا لتعزيز أمنها الطاقي ودعم تحولها نحو اقتصاد منخفض الكربون.

📚  المصدر:

Olabi, A. G., Alami, A. H., Allam, M. A., Abdelkareem, M. A., et al. (2023).
Redox Flow Batteries: Recent Development in Main Components, Emerging Technologies, Diagnostic Techniques, Large-Scale Applications, and Challenges and Barriers. https://doi.org/10.3390/batteries9080409

م. نادية مهدي

مهندسة كهرباء. خبيرة معتمدة من مؤسسة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية في إدارة أنظمة الطاقة، حاصلة على درجة الماجستير في هندسة الكهرباء، أسعى لنشر الوعي وإثراء المحتوى المتخصص في مجال كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى حصري