تصميم نظم الطاقة لمراكز البيانات: بين الاستدامة والاعتمادية في عصر الذكاء الاصطناعي

مقدمة
مع التوسع المتسارع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي (Gen AI) والاعتماد المتزايد على خدمات الحوسبة السحابية، أصبحت مراكز البيانات هي المحرك الخفي للاقتصاد الرقمي العالمي. إلا أن هذا النمو المتصاعد يفرض ضغطًا هائلًا على البنية التحتية للطاقة، لا سيما وأن هذه المراكز تستهلك كميات ضخمة من الكهرباء والتبريد على مدار الساعة لضمان الاستجابة الفورية وتخزين البيانات بكفاءة. وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة (IEA) إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء بلغ حوالي 415 تيراواط-ساعة في عام 2024، مع توقعات أن يتجاوز 940 تيراواط-ساعة بحلول عام 2030. وفي الولايات المتحدة وحدها، استحوذت هذه المراكز على أكثر من 4.4% من إجمالي الكهرباء المولدة عام 2023، مع احتمالية وصول النسبة إلى 12% بحلول عام 2028.
أمام هذه المعطيات، لم يعد من الممكن إدارة نظم الطاقة لمراكز البيانات وفق النموذج التقليدي القائم على التوصيل بالشبكة وشراء الكهرباء من السوق فقط. فبين تقلبات أسعار الطاقة، وتأخر عمليات الربط، وارتفاع الانبعاثات الكربونية من بعض مصادر التوليد، تظهر الحاجة إلى حلول مبتكرة تدمج الاستدامة مع الاعتمادية والفعالية الاقتصادية.
تحديات منظومة الطاقة التقليدية لمراكز البيانات
يُشكل الاعتماد الحصري على الشبكة الكهربائية العامة تحديًا استراتيجيًا لمطوري ومشغلي مراكز البيانات. فعلى الرغم من أن الشبكة تتيح سهولة الوصول إلى مصادر متنوعة من الطاقة، إلا أنها تفرض على المستخدم الالتزام بالكثافة الكربونية المرتبطة بمزيج توليد الكهرباء في الموقع الجغرافي. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تتفاوت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل كبير بين الطاقة المولدة من الفحم (حوالي 2200 رطل CO₂ لكل ميغاواط-ساعة) والطاقة المولدة من الغاز الطبيعي (حوالي 800 رطل CO₂) ، كما أن استبدال البنية التحتية القديمة وإدخال مصادر متجددة جديدة سيؤدي إلى رفع تكلفة الكهرباء مستقبلاً، ما يعمّق الحاجة لإعادة النظر في استراتيجية التزود بالطاقة.
من جهة أخرى، فإن مراكز البيانات الجديدة تواجه في كثير من الأحيان فترات انتظار طويلة للحصول على تصاريح الربط بالشبكة، الأمر الذي قد يؤخر التشغيل ويزيد التكاليف. وفي ظل تزايد الطلب على الطاقة، تصبح الاستدامة والتوافر الفوري للطاقة تحديين مزدوجين يتطلبان حلولاً متقدمة.
التوليد الذاتي: خيار جذاب لكنه معقد
كبديل عن الاعتماد الكامل على الشبكة، برز خيار التوليد الذاتي للطاقة من خلال محطات الغاز أو الأنظمة الشمسية أو طاقة الرياح أو حتى الهيدروجين الأخضر. هذا الخيار يمنح مراكز البيانات درجة عالية من التحكم في توفر الطاقة وتكلفتها وانبعاثاتها. وفي ضوء توقعات ارتفاع أسعار الكهرباء بوتيرة أسرع من أسعار الوقود، يمكن للتوليد الذاتي أن يكون خيارًا أقل تكلفة على المدى البعيد. كما يفتح الباب أمام بيع الفائض من الطاقة أو تحقيق مزايا تشغيلية إضافية في حالات الطوارئ أو انقطاع التيار.
لكن هذا الخيار لا يخلو من التعقيد، إذ يتطلب استثمارات ضخمة وخبرة فنية وتشغيلية، إضافة إلى التزامات تنظيمية صارمة. ولأن معظم مشغلي مراكز البيانات لا يملكون الخبرة الكافية في تشغيل أنظمة توليد الطاقة، فقد يمثل التوليد الذاتي عبئًا تشغيليًا غير محسوب إذا لم يتم تصميم النظام بعناية وفق نموذج متكامل.
منهجية Siemens Energy : تصميم نظم الطاقة المتكاملة
في ظل هذه التحديات والفرص، قدمت شركة Siemens Energy أداة هندسية متقدمة تحت اسم “تصميم نظام الطاقة ” Energy System Design (ESD) ، وهي منصة تعتمد على النمذجة الهندسية والتحسين الرياضي لاختيار وتركيب أفضل مزيج ممكن من تقنيات التوليد والتخزين لتلبية الطلب على الطاقة الكهربائية والحرارية في مراكز البيانات.
تعتمد هذه الأداة على تحليل الحمل الزمني بشكل دقيق، ودراسة الظروف المناخية المحلية، وتحليل الخيارات المتاحة لشراء أو بيع الطاقة والوقود، بالإضافة إلى دمج الأصول الموجودة مسبقًا في الموقع. كما تأخذ بعين الاعتبار تفضيلات العملاء، وأهدافهم البيئية والاقتصادية، والقيود التقنية أو التنظيمية المرتبطة بكل مشروع. وعبر نمذجة آلاف السيناريوهات وتشغيل التحسين الحسابي، توفّر ESD مخرجات دقيقة تشمل أفضل التكنولوجيات، والسعة المثلى لكل مكوّن، واستراتيجية التشغيل المناسبة لضمان الكفاءة والاعتمادية.
إزالة الكربون: موازنة دقيقة بين الكلفة والانبعاثات
في ضوء التزامات الاستدامة والحياد الكربوني، لم يعد تقييم تكلفة الطاقة وحده كافيًا لمشغلي مراكز البيانات. بل بات من الضروري إدخال البُعد البيئي، وتحديدًا كثافة الانبعاثات الكربونية (CO₂/MWh)، ضمن معادلة تصميم الأنظمة. وهنا تبرز قوة أداة تصميم نظام الطاقة (ESD) من Siemens Energy، والتي تتيح تحسين مزيج الطاقة بناءً على كل من التكلفة والانبعاثات، باستخدام منهجية دقيقة تُعرف باسم “المطابقة الزمنية لانبعاثات الكربون 24/7”
استعرضت الشركة في دراسة حالة مجموعة من التصاميم لنظام طاقة واحد، تم تعديلها تدريجيًا لتلبية حدود مختلفة لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ويُبيّن المسار التالي كيف يمكن خفض الانبعاثات تدريجيًا مقابل زيادة متوقعة في التكلفة:
المسار التدريجي نحو إزالة الكربون:
- النموذج الأرخص: محطة غازية مركبة تعمل باستمرار، بكثافة كربونية تبلغ 794 رطل CO₂/ميغاواط-ساعة وتكلفة 40.1 دولار. كفاءة عالية ولكن انبعاثات مرتفعة.
- سيناريو معتدل (579 رطل CO₂) : دمج طاقة الرياح والطاقة الشمسية مع محطة غازية أصغر، مما خفّض الانبعاثات بنسبة 27% مقابل زيادة في التكلفة بنحو 5.2%
- سيناريو منخفض الكربون (275 رطل CO₂) : خفض الانبعاثات بنسبة 65% باستخدام حصة أكبر من المصادر المتجددة، مع تكلفة أعلى بنسبة 9.2%.
- سيناريو طموح (145 رطل CO₂) : خفض الانبعاثات بنسبة 82% عبر تعزيز الطاقة المتجددة والاحتفاظ بمحطة غازية مرنة. ارتفعت التكلفة بنسبة تقارب 30%
- نظام خالٍ من الكربون: استخدام الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة والتخزين بالبطاريات، لتحقيق صفر انبعاثات، بتكلفة أعلى بنسبة 136%
تكشف هذه التحليلات أن الوصول إلى طاقة نظيفة يتطلب مفاضلة دقيقة بين الكلفة والانبعاثات. ويمكن لأداة ESD أن تساعد أصحاب القرار على تحديد موقعهم الأمثل على “منحنى الأداء”، وفق أولوياتهم واستراتيجياتهم المناخية، مع إمكانية الاستفادة من الحوافز الحكومية مثل إعفاءات الاستثمار (ITC) أو شهادات الطاقة النظيفة.
الاستعداد لمستقبل خالٍ من الكربون
أحد أهم مزايا التصاميم المقترحة أنها قابلة للتطوير مع تطور تقنيات الوقود النظيف. فمثلاً، يمكن تشغيل التوربينات الغازية الحالية باستخدام الهيدروجين عندما يصبح متاحاً بأسعار تنافسية. كما أن استخدام أنظمة البطاريات يتيح مرونة في إدارة الفائض والتقلبات اليومية في الإنتاج والطلب. علاوة على ذلك، فإن التصميم المقترح قابل للتكامل مع الأسواق الكهربائية، ما يفتح المجال أمام استراتيجيات جديدة لبيع الطاقة أو المشاركة في موازنة الشبكة، وبالتالي تحسين العوائد وتقليل التكلفة الفعلية للنظام.
خلاصة وتوصيات
تُظهر نتائج هذه الدراسة أن تحقيق التوازن بين الاعتمادية والتكلفة والاستدامة في تشغيل مراكز البيانات ليس مهمة مستحيلة، بل يمكن تحقيقه عبر استخدام أدوات تصميم ذكية مثل ESD التي تقدم حلولاً مبنية على بيانات دقيقة وتحسينات رياضية. ومن خلال دمج مصادر الطاقة المتجددة، وتقنيات التخزين، والتشغيل الأمثل للأصول، يمكن بناء نظم طاقة مرنة وقابلة للتوسع تدعم التحول الرقمي بشكل مسؤول بيئيًا. إن مستقبل مراكز البيانات يجب ألا يكون مجرد استجابة لطلب السوق، بل يجب أن يكون نموذجاً يُحتذى في إدارة الطاقة المستدامة. وهنا تلعب أدوات مثل “تصميم نظام الطاقة” دورًا حاسمًا في رسم خارطة طريق واقعية ومربحة نحو الحياد الكربوني.
📚 المصدر:
Siemens Energy. Optimization of data center power systems using energy system design. Whitepaper, 2024.