الإستدامةتخزين الطاقةتقنيات اخرى

هل يمكن تحويل مناجم الفحم المهجورة إلى بطاريات هوائية عملاقة؟

تقنية صينية جديدة تكشف الإجابة

مقدمة

منذ عقود كانت مناجم الفحم رمزًا لعصر الوقود الأحفوري؛ حفر عميقة تبتلع العمال وتُطلق ملايين الأطنان من الانبعاثات. اليوم، يعود بعض هذه المناجم إلى دائرة الضوء، ولكن بصورة مختلفة تمامًا: كمستودعات طاقة نظيفة.
فريق بحثي دولي بقيادة جامعة تشونغتشينغ الصينية طرح سؤالًا جريئًا: ماذا لو تحوّلت الممرات المغمورة بالمياه في مناجم الفحم المهجورة إلى خزانات لتخزين الهواء المضغوط والحرارة، تُشحن بالطاقة الشمسية والرياح نهارًا وتُفرغ ليلًا لتغذية الشبكة بالكهرباء؟

من هذا السؤال وُلد مفهوم Flooded Mine-Compressed Air Energy Storage (FM-CAES)، وهو نظام لتخزين الطاقة بالهواء المضغوط داخل ممرات المناجم المليئة بالمياه، يقترح استخدام البنية التحتية القديمة كجزء من منظومة الطاقة المتجددة، بدل الاكتفاء بإغلاقها وتركها مهجورة.

كفاءة عالية وتخزين كثيف للطاقة

للتأكد من جدوى هذا المفهوم، أجرى الباحثون محاكاة عددية باستخدام برنامج  COMSOL 6.0، مع افتراض نظام تشغيلي بقدرة تفريغ اسمية تبلغ 10 ميغاواط، ومعدل تدفق هواء يناهز 26.9 كغ/ثانية، ودرجة حرارة محيطة 292.65 كلفن. أظهرت النتائج أن الكفاءة الحرارية الكلية للنظام يمكن أن تصل إلى 71.5%، وهي قيمة لافتة مقارنة بالعديد من حلول تخزين الطاقة الأخرى.

أما من ناحية كثافة تخزين الطاقة، فقد بلغ Energy Storage Density  نحو 29.72  ميغا جول لكل متر مكعب، وهي قيمة تتحسن بوضوح مع زيادة عمق الممرات. فكل مئة متر إضافية في العمق ترفع الكثافة من 4.3 إلى 6.7 ميغا جول لكل متر مكعب تقريبًا، ويرجع ذلك إلى زيادة الضغط الهيدروستاتيكي للمياه المحيطة، ما يسمح بتخزين كمية أكبر من الطاقة في نفس الحجم من الهواء.

Image Source: https://doi.org/10.1016/j.energy.2025.139336

 

اللافت أن أداء النظام ظل مستقرًا إلى حد كبير رغم تغير معدل تدفق الهواء، كما أظهرت المحاكاة أن زيادة الضغط المائي من 4 إلى 12 ميغاباسكال تطيل زمن التخزين بما يقارب 38%، وتخفض معدل تدفق الهواء بنحو 27%، مع تحسن طفيف في الكفاءة. هذه المرونة تعطي المصممين مساحة واسعة لضبط النظام وفق احتياجات الشبكة وخصائص كل منجم.

تسرب الهواء… إلى أي مدى يمثل مشكلة؟

أحد الهواجس الأساسية في أي نظام لتخزين الهواء تحت الأرض هو التسرب على المدى الطويل. الفريق البحثي درس هذه المسألة بدقة من خلال تحليل نفاذية الصخور المحيطة وطبقة البطانة الخرسانية للممرات. النتيجة كانت مشجعة؛ إذ تبين أن تسرب الهواء يصبح غير مؤثر عمليًا عندما تكون نفاذية الصخور أقل من ‎10⁻¹⁷ متر²، ونفاذية الخرسانة أقل من ‎10⁻¹⁹ متر².

المثير للاهتمام أن المحاكاة الممتدة على فترة 30 عامًا أظهرت أن الكفاءة النهائية للنظام تتقارب عند أعماق مختلفة، رغم أن معدلات التسرب في الأعماق الأكبر تكون أعلى قليلاً. هذا يعني أن تأثير التسرب يصل إلى حالة “تشبع” على المدى الطويل، ولا يستمر في تآكل الكفاءة بشكل خطي، ما يعزز من واقعية استخدام هذه التقنية في مشروعات تجارية طويلة الأجل.

في المقابل، أوضحت الدراسة أن أكبر خسائر الإكسيرجي تقع في مرحلتي الضغط والتمدد، بنسبة تقارب 9% و10.5% على الترتيب، بينما لا تتجاوز خسائر المراحل الأخرى 4.3%. هذه النتيجة توجه التركيز البحثي المستقبلي نحو تحسين تصميم الضواغط والتوربينات وعمليات نقل الحرارة المرتبطة بهما، لرفع الكفاءة الكلية للنظام أكثر فأكثر.

منجم الفحم: من مصدر انبعاثات إلى أصل طاقي استراتيجي

أهمية هذا المفهوم لا تكمن في أرقامه الجيدة فحسب، بل في رمزيته أيضًا. فبنى تحتية تمثّل تاريخًا طويلاً من الاعتماد على الفحم يمكن أن تتحول إلى أصول طاقية نظيفة تخدم شبكات يعتمد جزء كبير منها على الطاقة المتجددة المتقطعة. الصين تمتلك آلاف الكيلومترات من الممرات المنجمية التي أُغلقت أو في طريقها للإغلاق، وكذلك العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا؛ وكلها يمكن أن تجد في FM-CAES فرصة لإعادة توظيف هذه الأصول بدل تركها عبئًا بيئيًا وجيولوجيًا.

من الناحية العملية، يمتزج هذا الحل جيدًا مع طبيعة مصادر الطاقة المتجددة: فالشمس والرياح تنتج غالبًا أكثر من الحاجة في أوقات محددة، بينما ترتفع الأحمال في فترات أخرى من اليوم. نظام تخزين قادر على العمل في دورات شحن وتفريغ يومية (ثماني ساعات شحن، ثماني ساعات تفريغ، مع أربع ساعات مخصصة لتغير منسوب المياه والهواء) يقدم خيارًا منطقيًا لتعزيز مرونة الشبكة وتقليل الاعتماد على محطات الغاز السريعة أو وحدات الديزل الاحتياطية.

أي مستقبل ينتظر هذه التقنية؟

لا تزال تقنية FM-CAES في مرحلة التقييم النظري والمحاكاة، لكنها مبنية على عناصر معروفة جيدًا: فيزياء الهواء المضغوط، أسس ميكانيكا الموائع، سلوك الصخور تحت الضغط، وتقنيات العزل والبطانة التي تُستخدم بالفعل في قطاعات النفط والغاز والأنفاق. إضافة إلى ذلك، فإن مشاركة باحثين من جامعة لوليو التقنية في السويد والمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي مع فريق جامعة تشونغتشينغ تعطي الدراسة بعدًا دوليًا، وتزيد من فرص انتقال الفكرة من الورق إلى مشاريع تجريبية حقيقية.

إذا ما نجحت التجارب الميدانية في السنوات المقبلة، فقد نرى مناجم الفحم القديمة تتحول إلى عقد تخزين رئيسية في شبكات طاقة تعتمد بشكل متزايد على الشمس والرياح. عندها سيكون التحول الطاقي قد حقق إنجازًا رمزيًا بقدر ما هو تقني:  البنى التحتية نفسها التي أنتجت الانبعاثات لسنوات طويلة تصبح جزءًا من الحل لا جزءًا من المشكلة.

خاتمة

يمثّل نظام FM-CAES فرصة لتحويل مناجم الفحم من عبء تاريخي إلى أصل طاقي استراتيجي يدعم دمج الطاقة المتجددة في الشبكة. ومع إثبات كفاءته حراريًا واقتصاديًا، يمكن أن يصبح أحد أهم حلول التخزين متوسطة وطويلة الأمد في الدول ذات الإرث التعديني، مسرّعًا لخطط الحياد الكربوني وخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري.

📚  المصدر:

Guo, P., Fan, J., Li, Z., Fourmeau, M., Zou, Y., Chen, J., & Jiang, D. (2024). Exploring compressed air energy storage in abandoned flooded coal mine: Thermodynamic analysis and applicability study

م. نادية مهدي

مهندسة كهرباء. خبيرة معتمدة من مؤسسة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية في إدارة أنظمة الطاقة، حاصلة على درجة الماجستير في هندسة الكهرباء، أسعى لنشر الوعي وإثراء المحتوى المتخصص في مجال كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى حصري