هل الطاقة النووية خيار محفوف بالمخاطر في مشاريع البنية التحتية للطاقة؟

في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم لتحقيق الحياد الكربوني وتوسيع اعتمادها على مصادر طاقة منخفضة الانبعاثات، تواجه مشاريع الطاقة تحديات مالية وزمنية متزايدة قد تقوّض فعالية خطط التحول الطاقي. دراسة جديدة صادرة عن معهد الاستدامة العالمية في جامعة بوسطن الأمريكية تسلط الضوء على فجوة مقلقة بين التكاليف المقدّرة والواقع الفعلي لمشاريع البنية التحتية للطاقة في مختلف أنحاء العالم، وتكشف أن الطاقة النووية هي الأعلى مخاطرة من حيث تجاوز الميزانيات والجداول الزمنية، في حين تظهر مشاريع الطاقة الشمسية مستويات غير مسبوقة من الكفاءة في الإنجاز والالتزام المالي.
دراسة شاملة لـ 662 مشروعاً في 83 دولة
أجرت دراسة حديثة، نُشرت في مايو 2025 في مجلة Energy Research & Social Science تحت عنوان: “ما بعد وفورات الحجم: دروس من مخاطر تجاوز التكاليف وتأخيرات البناء في مشاريع البنية التحتية للطاقة العالمية“ تحليلاً تفصيلياً لـ 662 مشروعًا للطاقة في 83 دولة حول العالم، تم تنفيذها بين عامي 1936 و2024، وبقيمة استثمارية إجمالية بلغت حوالي 1.36 تريليون دولار أمريكي.
تنوعت المشاريع بين محطات توليد الكهرباء التقليدية (الحرارية)، والمفاعلات النووية، ومحطات الطاقة الكهرومائية، والطاقة الريحية، والمرافق الشمسية (بما يشمل الأنظمة الكهروضوئية والمركزة)، وخطوط النقل عالية الجهد، ومحطات الطاقة الحيوية، والجيوحرارية، ومواقع إنتاج الهيدروجين، ومنشآت التقاط وتخزين الكربون.
الطاقة النووية: الأعلى تكلفة والأبطأ تنفيذًا
أظهرت نتائج الدراسة أن محطات الطاقة النووية هي الأسوأ أداءً من حيث تجاوز الميزانية الزمنية والمالية. فقد تجاوزت تكلفة البناء المقدرة بنسبة 102.5% في المتوسط، ما يعادل زيادة قدرها 1.56 مليار دولار لكل مشروع، وهو رقم مذهل يكشف عن تحديات تنظيمية، وهندسية، وتنفيذية مركّبة.
كما سجلت المشاريع النووية تأخيرات زمنية بمتوسط 35 شهرًا، أي قرابة ثلاث سنوات، مما يزيد من التكاليف التشغيلية والمالية المرتبطة برأس المال المجمد، ويؤثر سلبًا على جدوى المشروع على المدى الطويل.
الطاقة الكهرومائية والجيوحرارية تلي النووي في المخاطر
جاءت مشاريع الطاقة الكهرومائية في المرتبة الثانية من حيث تجاوز التكاليف، بمتوسط زيادة 36.7%، تلتها مشاريع الطاقة الجيوحرارية بنسبة 20.7%، ثم مشاريع احتجاز الكربون (CCS) بنسبة 14.9%، وأخيرًا الطاقة الحيوية بنسبة 10.7% ، تراوحت تأخيرات البناء في هذه المشاريع بين 11 إلى 27 شهرًا.
الطاقة الشمسية: الأداء الأفضل ماليًا وزمنيًا
على النقيض تمامًا، سجلت محطات الطاقة الشمسية الكهروضوئية (PV) ومشاريع خطوط النقل الكهربائية أداءً متميزًا، حيث انخفضت التكاليف الفعلية عن المخططة بنسبة 2.2% و3.6% على التوالي، وهي مفاجأة إيجابية نادرة في قطاع يهيمن عليه عدم اليقين المالي.
من حيث الجدول الزمني، أكملت مشاريع الطاقة الشمسية والبنية التحتية للنقل أعمالها بأقل تأخير ممكن أو بدون تأخير على الإطلاق، بمتوسط تأخير لا يتجاوز شهرًا واحدًا، مما يعزز جاذبيتها للمستثمرين وصناديق التمويل التي تضع عامل المخاطرة في صدارة أولوياتها.
الطاقة الريحية والهيدروجين: مستويات مخاطرة معتدلة
جاءت مشاريع الطاقة الريحية بمتوسط زيادة في التكاليف قدره 5.2%، بينما سجلت مشاريع إنتاج الهيدروجين زيادة قدرها 6.4% ، ورغم أن هذه المعدلات أقل بكثير من مشاريع الوقود الأحفوري أو النووي، إلا أنها تعكس تحديات النمو السريع والتقنيات الجديدة في هذه المجالات، خصوصًا في ظل غياب أطر تنظيمية مستقرة في العديد من الدول النامية.
الحجم الكبير يزيد من المخاطر
توصلت الدراسة إلى أن المشاريع التي تتجاوز سعتها 1,561 ميغاواط تواجه مخاطر تصاعد التكاليف بشكل كبير. ويُعزى ذلك إلى تعقيد الإدارة، وغياب المرونة، وزيادة التعرض لمشكلات سلسلة التوريد والتمويل.
في المقابل، فإن المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، خاصةً في تقنيات الطاقة المتجددة، تميل إلى تحقيق معدلات إنجاز أعلى، وتُظهر قدرة أكبر على التكيف مع التحديات، مما يُعد مؤشرًا مهمًا لمستقبل بنية الطاقة المستدامة.
هل تمثل الطاقة النووية خيارًا غير عقلاني اقتصاديًا؟
تأتي نتائج هذه الدراسة في وقت يشهد فيه العالم جدلًا متصاعدًا حول دور الطاقة النووية في مزيج الطاقة المستقبلي. وبينما يرى البعض أن المفاعلات النووية ضرورية لتحقيق الأهداف المناخية، بسبب قدرتها على توليد كهرباء منخفضة الانبعاثات وبشكل مستقر، تُظهر هذه البيانات أن الجدوى الاقتصادية للطاقة النووية موضع تساؤل حقيقي. فعند مقارنة الطاقة النووية بالطاقة الشمسية أو الريحية، نجد أن الأخيرة توفر حلولاً أقل تكلفة، أسرع تنفيذًا، وأقل عرضة للمخاطر المالية، خاصة عند اعتماد نماذج التوسع اللامركزي والموزع.
توصيات للمستثمرين وصناع القرار
تشير الدراسة إلى أهمية اعتماد نماذج تمويل ذكية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع البنى التحتية القابلة للتوسع التدريجي والمبنية على الوحدات النمطية (Modular systems)، لتقليل التعرض لمخاطر التكاليف والتأخيرات.
كما توصي بتحديث أدوات التقييم الاقتصادي لتشمل عوامل المخاطرة الزمنية والتضخم والتعقيد التنظيمي، وعدم الاقتصار على المعايير التقليدية لقياس العائد على الاستثمار.
في الختام
تبرز نتائج هذه الدراسة كجرس إنذار لصناع القرار في الحكومات والمؤسسات المالية العالمية، وتدعو إلى إعادة تقييم أولويات الاستثمار في مشاريع الطاقة، مع إعطاء الأفضلية للتقنيات التي تجمع بين الكفاءة الاقتصادية والسرعة في التنفيذ، مثل الطاقة الشمسية. في المقابل، يجب النظر إلى المشاريع النووية بواقعية اقتصادية أكثر، خاصة في ظل ميزانيات الدول المقيدة وضغوط التمويل الأخضر.
لقراءة الدراسة البحثية كاملةً من هنا