كيف يمكن للبصمة الكربونية أن تحدد مستقبلنا المناخي؟

ترك بصمة في عالم المستقبل هو طموح يتشاركه معظم الناس. لكن في بعض الحالات، أفضل ما يمكن أن نتركه للأجيال القادمة هو أقل أثر ممكن — بل ربما لا أثر على الإطلاق. هذا هو جوهر الحديث عن البصمة الكربونية، التي باتت اليوم مؤشراً أساسياً لقياس مدى تأثير الإنسان، والمؤسسات، وحتى الدول على تغير المناخ.
ما المقصود بالبصمة الكربونية؟
تشير البصمة الكربونية إلى إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة، وبشكل رئيسي ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، الناتجة عن نشاطات فردية أو مؤسسية أو وطنية. وهي تشمل جميع الانبعاثات المرتبطة بإنتاج واستهلاك الطاقة، والنقل، والصناعة، والتغذية، وحتى أسلوب حياتنا اليومي.
كل عملية إنتاج أو استهلاك — سواء كانت تقود سيارة، أو تصنّع منتجاً، أو تشغّل محطة كهرباء — تطلق كميات من الكربون إلى الغلاف الجوي. وهذه الانبعاثات هي المحرك الرئيسي للاحترار العالمي، وارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الجليد القطبي، وتزايد الكوارث المناخية.
كيف تُقاس البصمة الكربونية؟
يتم التعبير عن البصمة الكربونية عادةً بوحدة طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (tCO₂eq) ، وتشمل القياسات المباشرة وغير المباشرة للانبعاثات، بما في ذلك الانبعاثات الناتجة عن سلسلة التوريد بأكملها، أو ما يُعرف بـ انبعاثات النطاق الثالث (Scope 3) في تقارير الاستدامة.
تعتمد أدوات القياس على قواعد بيانات دقيقة، مثل قاعدة بيانات عوامل الانبعاثات الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة (IEA)، التي توفر مؤشرات متعددة تتعلق بانبعاثات الكهرباء والتدفئة حسب الدولة ونوع الوقود ومصدر الطاقة. وتشمل هذه القاعدة ما يلي:
تتضمن قاعدة بيانات عوامل الانبعاثات (Emissions Factors Database) المؤشرات التالية المرتبطة بانبعاثات الكهرباء والتدفئة:
- عوامل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من توليد الكهرباء والتدفئة لجميع دول العالم بوحدة CO₂ لكل ك.و.س، من 1990 حتى 2020.
- عوامل الانبعاثات من توليد الكهرباء فقط، بما في ذلك الكهرباء الناتجة من التوليد المشترك (CHP)، لنفس الفترة.
- أحدث عوامل الانبعاثات للدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) وبعض الدول الأخرى بناءً على بيانات مؤقتة لعام 2021.
- معاملات تصحيح لانبعاثات CO₂ الناتجة عن خسائر الكهرباء في الشبكة.
- معاملات تصحيح لانبعاثات CO₂ الناتجة عن تجارة الكهرباء بين الدول خاصة دول الـOECD
- عوامل انبعاثات لغازي الميثان (CH₄) وأكسيد النيتروز (N₂O) من توليد الكهرباء، محسوبة على أساس مكافئ CO₂
- عوامل انبعاث حسب نوع الوقود من الاحتراق المباشر في القطاعات غير المرتبطة بإنتاج الكهرباء أو التدفئة.
في إصدار 2022، قامت الوكالة الدولية للطاقة بتوسيع التغطية الجغرافية لتشمل أكثر من 40 دولة إضافية حتى عام 2020.
لماذا من المهم تتبع هذه البصمة؟
قياس البصمة الكربونية ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو خطوة أساسية نحو تخفيف تأثيرنا على البيئة. يمكن للمؤسسات أن تستخدم هذه البيانات لتقليل الانبعاثات عبر التحول إلى مصادر طاقة متجددة، أو تحسين كفاءة التشغيل، أو تغيير المواد المستخدمة في الإنتاج. أما الأفراد، فيمكنهم خفض بصمتهم الكربونية من خلال تغيير نمط حياتهم: تقليل استخدام السيارات، اختيار الأغذية المحلية والنباتية، والتقليل من الاستهلاك الزائد.
ما أهمية تقارير البصمة الكربونية في إدارة التحول المستدام؟
في ظل تصاعد الضغوط التنظيمية والمجتمعية، أصبحت تقارير البصمة الكربونية أداة مركزية في ممارسات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG). فهي لا تقتصر على الإفصاح عن الأرقام، بل تُعدّ بمثابة خريطة طريق للمؤسسات نحو الاستدامة المناخية.
توفر هذه التقارير:
- شفافية بيئية تُسهم في بناء الثقة مع المستثمرين والمستهلكين والجهات التنظيمية.
- مقارنة معيارية (Benchmarking) تُمكن المؤسسات من تقييم أدائها مقابل منافسين أو معايير عالمية.
- أساسًا لاتخاذ القرار في مجالات مثل الابتكار الأخضر، وكفاءة الطاقة، وإدارة سلسلة التوريد.
- إطارًا للامتثال لمبادرات دولية مثل الإفصاح الإلزامي في إطار Task Force on Climate-related Financial Disclosures (TCFD) أو المعايير الجديدة لمجلس IFRS الخاصة بالتقارير المناخية.
تتضمن هذه التقارير عادةً حسابًا تفصيليًا للانبعاثات حسب النطاق، إلى جانب تحليلات للتغير السنوي، وخطط خفض الانبعاثات، ومؤشرات الأداء البيئي (KPIs). كما تعكس التقارير المتقدمة مدى التزام المؤسسة بـ مسار الحياد الكربوني واستعدادها للتكيف مع مخاطر تغير المناخ.
وبذلك، تصبح تقارير البصمة الكربونية ليست فقط أداة للامتثال، بل رافعة استراتيجية للابتكار والتحول المستدام.
كيف تؤثر السياسات الحكومية على البصمة الكربونية؟
تلعب الحكومات دوراً محورياً من خلال:
- فرض ضرائب على الكربون (Carbon Taxes)
- تطبيق نظم الاتجار بالانبعاثات (Emission Trading Schemes)
- دعم مشاريع التحول الطاقي (مثل الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر).
- تحسين معايير كفاءة الطاقة في المباني والمركبات.
تشكل هذه الإجراءات إطاراً تنظيمياً يحفّز المؤسسات على خفض انبعاثاتها وتقليل بصمتها البيئية، ما يساعد في الوصول إلى أهداف اتفاق باريس وتحقيق الحياد الكربوني.
كيف يمكن للمؤسسات قياس وإدارة بصمتها الكربونية؟
أصبح الآن من الضروري لكل مؤسسة — خاصة تلك العاملة في القطاعات الصناعية والطاقة والتكنولوجيا — إعداد تقارير استدامة دورية تتضمن:
- حساب البصمة الكربونية المباشرة وغير المباشرة (Scopes 1, 2, 3)
- تبني أدوات محاسبية مثل GHG Protocol وISO 14064
- إعداد خطط خفض الانبعاثات، وربطها بأهداف علمية (Science-Based Targets)
وتشكل البيانات المعتمدة من مصادر مثل IEA وIPCC مرجعاً أساسياً في هذا المجال، حيث تتيح إجراء تقييمات دقيقة لمصادر الانبعاث واتخاذ قرارات مبنية على حقائق.
المصادر:
International Energy Agency (IEA), Emissions Factors 2022
“Enel Green Power. “Carbon Footprint: What It Is and How to Reduce It